هذه القصة انقلها لكم من موقع التوبة وفي هذا الموقع الكثير من القصص الرااائعة من تائبين حقيقيين
انفسهم يروون قصص توبتهم ولكن هذه القصة مختلفة فأتمنى ان تستمتعوا بقراءة هذه القصة الواقعية:
تحقيقاً لرغبة الكثير من الأخوة الأفاضل ، سأعود بكم إلى الوراء لأروي لكم قصة غرقي في البحر مع صاحبي أبي أنس وطفله الصغير الذي كان عمره لا يتجاوز ثلاث سنوات :
سأروي لكم اليوم قصّتي في البحر.. إنّها قصّة مَنْ وقف على شُرفة الموت، وشمَّ رائحة النزع، وعانق مخالب الاحتضار، إنّها قصّة ليست قريبة العهد نسبيّا، ولكن أحداثها المرعبة وفصولها المثيرة لا تزال تتمثّل أمام ناظريّ فكأنها الحلم المُرعب أو الكابوس الثقيل.. كلما هممت أن أكتب عنها تهيأت لي صورة الموت فاغراً فاه.. مُشهراً أنيابه.. فداهمتني رجفة الموقف، وهيبة الحدث، فألْجمتْ قلمي وعصفتْ بذهني، وطفقت أمسح بكفيّ على وجهي وجسدي لأتحسس نبض الحياة.. ولتتوارد الأسئلةُ أمامي.. هل صحيحٌ ما حدث؟! هل أنا اليوم حيٌّ أُرزق؟! هل لا زالت أنفاسي تتردد وقلبي يخفق؟! فأين عبارات الحمد التي تفي بمشاعر الامتنان لله عزّ وجلّ؟!! وأين كلمات الشكر التي توازي فضل الرحيم الرحمن.. السلام المؤمن.. الحفيظ العليم؟!! يا للمنّة!! ويا للعطاء!! ويا للفضل والسخاء!!
بدأت أحداث القصّة بعرض فكرة "رحلة الصيد البحريّة" على صاحبي الداعية الإسلامي المشهور، والخطيب المفوّه، والباحث المحقق، وإمام الجامع الأشهر بمدينة الخبر على الشاطئ الشرقي للمملكة.. إنّها رحلة صيد في كبد البحر.. ولكن يا ليت شعري كم من صيّاد أصبح صيداً.. وكم من مخبرٍ أصبح خبراً عابراً :
جُبلت على كدر وأنت تريدها *** صفواً من الأقذاء و الأكدار
ما إن يرى الإنسان فيها مخبرا *** حتى يُرى خبراً من الأخبار
وحظيت الفكرة بموافقة صاحبي بعد إصرار مني .. واتفقنا على الانطلاق بعد صلاة العصر في ذلك الخميس من مرفأ مدينة الملك فهد الساحلية.. وحضرت أنا وصاحبي في الموعد المقرر ومعه ابنه أنس (3سنوات).... واستقلنا قاربي الموسوم بـ "هاني الأول".. وودعنا شاطئنا لنستعرض البحر بمركبنا الصغير.. في نهار ساكن النسمات.. زكيّ النفحات.. وكأنما نسير في صَدَفة زرقاء تحيطنا من حولنا زُرقة البحر الصافية.. وتغمرنا من فوقنا زُرقة السماء الصافية.. والموشحة بقطع فارهة من السَّحاب الأبيض الرائع المتقطّع كاللؤلؤ المنثور في صدفتنا الزرقاء.. وفي هذا الجوّ الرائع والمنظر الساحر كنتُ أستمع في استمتاع إلى حديث صاحبي الشائق وهو يحدّثني ويحدّث ابنه الصغير عن أدعية الركوب.. وعن عظمة الله.. وعن البحر.. وعن حديث القرقور.. وقصّة صاحب الأخدود..
ومع الحديث الماتع ذهبنا بعيداً في عُمق البحر.. ثم أوقفنا قاربنا لنبدأ عمليّة الصيد.. وما هي إلا دقائق معدودة حتى ظفرنا بسمكة كبيرة كدت وصاحبي أن ننوء بحملها لإدخالها في القارب.. ليصرخ أنس خوفا من تلك السمكة ونسارع إلى طمأنته وبيان محاسنها وصفاتها ولطف أخلاقها وأصالة معدنها!!! ونعدُه بوجبة عشاءٍ بحريّة لذيذة!!
ثم قررنا أن نغير مكاننا لنظفر بصيدٍ آخر.. وتحدث المفاجأة......
المحرك الأصلي لا يعمل.. ولم تفلح محاولاتي الكثيرة في تشغيله..
واضطرني هذا لتشغيل المحرك الإضافي.. وهو محرّك أضفتُهُ مؤخرا بناءً على شروط حرس الحدود كأحد شروط السلامة البحريّة إضافة إلى أطواق النجاة..
ويشتغل المحرّك الاحتياطي.. ونتحرك باتجاه الشاطئ .. وأفاجأ بأن الخزان المجاور للمحرك قد امتلأ بالماء لأسباب لا أعلمها حتى الآن.. وربما يكون لحدوث تهريب من صُرّة القارب المعدّة لتنظيفه على الشاطئ..
وهنا تتصاعد أنفاسي.. ويحاصرني القلق.. ويداهمني الخوف –ليس على نفسي فأنا أجيد السباحة ولله الحمد- ولكن على ذلك الشيخ الفاضل الذي نفع الله بعلمه القاصي والداني.. وفتح الله له قلوب الناس.. وأظهر الله به السنّة.. واعتصرني الألم على ابنه الصغير..
وهممتُ أنزحُ الماء والشيخُ يساعدني.. ولكن هيهات.. إنما هي لحيظات قليلة ويختلُّ توازن المركب من الخلف.. ليغوص في قوّة وسرعة باتجاه عمق البحر.. وفي غمرة الحدث يلقي الشيخ إليّ بابنه أنس لأتلقفه.. وتبتلعنا دوامة الموج التي أحدثها القارب لأغوص مع الطفل الصغير في الأعماق.. وأصعد بصعوبة بالغة.. لقد كانت هذه اللحظة من أحرج اللحظات في حياتي.. لأن الموقف كان أقوى من مهارات السباحة التي أجيدها.. ولقد كدت أن أفقد الطفل في عصفة الموج وهول الصدمة لولا توفيق الله وعنايته وتثبيته...
ونعود للسطح بعد هدأة العاصفة وأنا أمسكُ بالطفل.. وكلّي تساؤل عن حال الشيخ ومآله.. ولقد أيقنت أنه لن ينجو من ذلك الموقف أبدا لأنّه لا يجيد السباحة.. ولكن بفضل الله وجدت صاحبي ممسكا بجالون فارغ.. ومن كرم الله ولطفه أن تلك الحركة السريعة للقارب تسببت في فتح صندوقٍ مغلقٍ كان يحوي أطواق النجاة والتي طفت بدورها على سطح الماء.. ألقيت بطوق نجاة لصاحبي والذي استعاد توازنه.. وجذبت طوقا آخر لي.. لتبدأ الرحلة الشاقة الشاقة في الوصول إلى الشاطئ البعيد..
سبحان الله.. إنها مجرد ثوان معدودة تلك التي تفصل بين الأمان والخوف.. والمتعة والمشقة.. والنعمة والنقمة.. والسكون والعاصفة..
خلق الله هذا البحر السادر الهادر.. فما أجمله في سكونه وهدوئه وصفائه وعظمته وانشراحه.. ولكن –أيضا- ما أسرع غدرته، وما أقوى ثورته، وما أشد صولته.. وما أعظم سطوته..
فيه روعة جمال.. وعليه مهابة وخشوع.. وله طعنة لا تكاد تخطئ !!
إنه -بقدرة الله تعالى- يحمل الأرزاق.. ويقطع الأعمار..
إنّه يبعث الأمل.. ويجلبُ الألم..
إنّه يبهج الناظر.. ويحزن المُثكل..
كم من بعيدٍ قرّبه.. وكم من قريبٍ بعّده..
ربما يحمل المرضى إلى مواطن الاستشفاء.. وربما يهلك الأصحّاء ويبتلع الأحياء..
لقد تحولّت تلك الصَدَفة الزرقاء إلى خطر أحمر.. وتبدّل ذلك الصفاء إلى طوفان هادر.. وتلك النفوس التي كانت قبيلُ منشرحة تضيق الآن بتزاحم مشاعر الخوف والحزن وتأنيب الضمير والرجاء في فرج الله.. وقد تحشرج الصدر واستحكم الأمر فلا منجى من الله إلا إليه.. ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم....
كان الوقت قبيل الغروب.. وكنت أرجو من الله أن يسخّر لنا من حرس الحدود أو من الصيادين من يعبر بالقرب منّا فيمد لنا يد العون والمساعدة.. وتتطاول الدقائق فكأنما هي السنوات.. ويضمحل الرجاء فيما سوى الله من أسباب.. ويتلاشى الأمل مع إغماضة الشمس لعينيها لتسدل الستار على يوم عصيب لا زلنا نكابد لحظاته ونتجرع سكراته.. وتتركنا الشمس على صورة رجل يحمل طفلا صغيرا يصارع به الأمواج.. ورجل آخر متعلّق بجالون وطوق نجاة هما –بالنسبة له- كل ما تبقى له من أهداب الحياة وأسباب النجاة –بعد حفظ الله عز وجل-.
لقد كان الشيخُ أثبت منّي إيماناً وأقوى عزماً، وأقرب إلى الله عزّ وجلّ، حيث أخذ يشد من عزمي، ويذكرني بالله عزّ وجلّ، واللجوء إليه في الشدائد، ويتلو عليّ أدعية الهمّ والكرب ودعاء يونس عليه السلام، بل بيّن لي أحكام الوضوء وكيفيّة الصلاة في مثل هذا الوضع.. وأوصاني بإشغال قلبي ولساني بالذكر..
إنها طبيعة الإيمان الصادق والعقيدة الراسخة حينما تتجلى ثمراتهما في أحلك الظروف، حينما تحمرّ عاصفة البلاء، ويهيج طوفان الفتن، فإذا القلوب المفعمة بالإيمان الحق والعقيدة الصافية ترسخ رسوخ الجبال فلا تميل ولا تحيد، بل تقف كالملاذ الآمن لدهماء الناس، وتقترب كالشاطئ الساكن الذي يتلقف الغرقى من كماشة الهلاك..
كان الشيخ قريبا مني يؤنسني ويثبتني ويهوّن المصاب في عيني، ويبعث الأمل في فرج الله.. وكان ينادي علي بين الحين والآخر..
يستلقي الشيخ على ظهره ممسكا بأطواق نجاته.. وهو وضع يصعب معه رؤية ما حوله.. ثم يسمع صوتا فينادي عليّ مبشراً بقدوم قارب.. وألتفت يمنة ويسرةً بقدر ما يسمح لي الظرف.. ولكن يتبيّن لي بأنها طائرة عمودية.. ولقد ظننتها جاءت تبحث عنّا حيثُ لوّحت بيدي وصرخت.. ولكن.... لا حياة لمن تُنادي.....
وتتماوج بنا حركة البحر صعوداً ونزولا، واقتراباً وابتعاداً، وأدركت أننا سنفترق بحكم اتجاهات الموج..
لقد كانت جميع الاحتمالات واردة، فإما أن يمنّ الله علينا بالسلامة، أو أن أهلك ومعي الطفل، أو أنجو أنا ويهلك الطفل أو أن يهلك الشيخ، بل إن مزالق الموت حينها أقرب لنا من جسور الحياة.. وعندها طلبت من الشيخ – تحت وابل من تأنيب الضمير- أن يسامحني وأن يحللني مما اقترفته في حقّه وحق ابنه وعائلته إنْ حصل مكروه.. كلُّ ذلك انطلاقاً من شعوري بالتقصير لأنني كنتُ من اقترح الرحلة وأعد القارب وخطّط للنزهة..
ويحينُ علينا وقت صلاة المغرب وعملتُ بوصيّة الشيخ فنويت الوضوء على وضعي وصليت المغرب في عرض البحر خائفا أترقب.. ويدلهّم الليل ، لم أعد استطيع أن أرى صاحبي ولكني لا زلتُ أسمع صوته، كان يناديني بين الفينة والفينة: يا إبراهيم كيف حالك؟ وكيف حال ( أنس )؟ فأردُّ عليه مباشرة: كلانا بخير، ينقطع الصوت فترة فأناديه: يا أبا أنس كيف حالك؟ فيقول: أنا بخير، وهكذا ...
وبدأ الصوت يتلاشى